تعذيب صحابي جليل
خباب بن الأرت ذاق أشد
أنواع العذاب علي يد سيدته أم أنمار
دعا عليها الرسول فأصابها السعار وظلت تعوي مثل الكلاب!
خباب بن الأرت صحابي جليل، تحمل في سبيل عقيدته بما هو فوق طاقة البشر، وقراءة مسيرة حياته وإسلامه ومواقفه، تعطي الإنسان صورة علي الإنسان أن يعيش للمبدأ، ولا يقايض بمبادئه ملء الأرض ذهبا.
فما أكثر ما عذب عندما أعلن إسلامه، فقد حوله الاسلام إلي إنسان آخر.. إنسان أصبح لحياته هدف وغاية، وأصبح للحياة نفسها هدف وغاية، علي أساس أنها معبر لعالم خالد لا يعرف الفناء.
وخباب عربي من بني سعيد، من تميم، اختطف من أهله عندما كان غلاما وبيع كرقيق في أسواق مكة، واشترته امرأة اسمها (أم أنمار) وهي امرأة من خزاعة كانت تشتغل خاتنة في مكة.
وكبر خباب، وشب علي الطوق، وأصبح ماهرا في صناعة السيوف والدروع.. واشتهر بمهارته تلك في مكة، فكان الناس يقبلون عليه لشراء سيوفهم ودروعهم.
وفجأة تغيرت حياته تماما، فقد سمع بالدعوة الاسلامية، وما ينادي به محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، وسرعان ما أقتنع بهذه الدعوة، وذهب إلي الرسول وأعلن اسلامه. ثم سرعان ما عرف الناس بهذا الخبر، وعندما سألوه عن ذلك لم ينكر، ولكنه لم يفق إلا بعد وقت طويل، فقد أخذوا في ضربه في كل مكان يقع عليه سياط الظالمين.
أما 'أم أنمار' سيدته، فقد أذاقته ألوانا من العذاب لا يخطر علي بال، فقد كانت تربطه في عمود من أعمدة البيت، وتشعل النار في الكور، وتضع فيه الحديد، حتي يصبح كالجمر، وتكوي به جسد خباب وهي تقول له:
ستظل هكذا حتي تعود إلي ملتنا، وتظل تعذبه بقطع الحديد الساخن كلما أفاق!!
***
ذهب خباب إلي رسول الله يشكو له ما يلاقي من عذاب، وقال للرسول الكريم:
يارسول الله.. ألا تدعو الله لنا فيخفف عنا عذابنا ويريحنا من موالينا؟
فطلب منه الرسول الصبر، وقال له:
إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب!
ويوضع المنشار علي فرق رأس أحدهم فيشق.. ما يصرفه عن ذلك عن دينه، وليظهرن الله تعالي هذا الدين، حتي يسير الراكب من صنعاء اليمن إلي حضرموت لايخاف إلا الله والذئب علي غنمه'!
***
فما كان من خباب بعد ما سمعه من الرسول إلا أنه أخذ يلوذ بالصبر الجميل، متحملا كل هذا العذاب من امرأة انتزع الله من قلبها أي رحمة.
***
ومر رسول الله به ذات يوم وهو يعذب، فرفع كفيه إلي السماء وقال:
اللهم انصر خبابا
واستجاب الله لدعاء رسوله، فقد أصيبت أم أنمار بسعار غريب فجعلها تعوي مثل الكلاب!
ونصحها البعض بأن علاجها هو أن تكوي رأسها بالنار!
وهكذا ذاقت من نفس الكأس التي أذاقته لخباب بن الأرت.
وتفرغ خباب للعبادة وحفظ القرآن الكريم حتي قال عنه عبدالله بن مسعود:
من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأه بقراءة أبن أم عبد'.
***
وكان خباب هذا هو الذي يعلم فاطمة بنت الخطاب، وزوجها سعيدبن زيد القرآن الكريم، والذي فاجأهم ذات يوم عمر بن الخطاب، وقد كان ممسكا سيفه يريد به الاعتداء علي رسول الله، ولكنه عندما قرأ أيات القرآن الكريم، لان قلبه، وطلب من أخته أن تدله علي محمد، يومها كان خباب مختبئا، فما كاد يسمع عمر، حتي خرج من مخبأه ليبشره بقوله:
يا عمر..
والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلي الله عليه وسلم، فإني سمعته بالأمس يقول:
'اللهم أيد الاسلام بأحب الرجلين إليك.. أبي الحكم بن هشام وعمر بن الخطاب'
وعرف عمر أن الرسول في بيت الأرقم بن أبي الأرقم فذهب وأعلن اسلامه، وكان اسلامه له أثره العظيم في تقويه الدعوة.
***
وقد شهد خباب جميع المواقف والغزوات مع الرسول الكريم، وعندما انتقل الي جوار ربه وكان له دخل كبير من بيت المال لسابقته في الاسلام، قرر أن يشتري بيتا متواضعا في الكوفة.. وكان يعطي من هذا المال المحتاجين.
***
ويقول الرواة إنه بكي حين حضرته الوفاة، وعندما سأله أصدقاؤه عما يبكيه، وهو سوف يلاقي الأحبة الذين سبقوه الي الدار الآخرة.. قال لهم:
أما أنه ليس بي جزع، ولكنكم ذكرتموني أقواما، واخوانا مضوا بأجورهم كلها لم ينالوا من الدنيا شيئا.
وإنما بقينا بعدهم حتي نلنا من الدنيا ما لم نجد له موضعا إلا التراب.
وكان قد أعد كفنه، وقال للذين جاءوا لعبادته:
انظروا هذا كفني.. لكن حمزة عم الرسول صلي الله عليه وسلم لم يوجد له كفن يوم استشهد إلا بردة ملحاء.. إذا جعلت علي رأسه قلصت عن قدميه، واذا جعلت علي قدمه قلست عن رأسه!.
***
ويرسم خالد محمد خالد هذه اللوحة لنهاية هذا البطل الذي عاش لله وبالله، لم يرهبه عذاب ولا تعذيب، ولكنه كان قرير العين، راضيا بما تجري به الأقدار مؤمنا بفوزه بنعم الآخرة، لرضاء الله ورسوله عليه.
يقول خالد محمد خالد في كتابه (رجال حول الرسول) ومات خباب في السنة السابعة والثلاثين للهجرة.
مات أستاذ صناعة السيوف في الجاهلية..
وأستاذ صناعة التضحية والفداء في الاسلام! مات الرجل الذي كان أحد الجماعة الذين نزل القرآن يدافع عنهم، ويحييهم عندما طلب بعض السادة من قريش أن يجعل لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم يوما، وللفقراء يوما.. من أمثال (خباب) و(صهيب) و(بلال) يوما آخر.
فإذا القرآن العظيم يحتضن رجال الله هؤلاء في تمجيد لهم وتكريم، وتهل أياته قائلة للرسول الكريم:
'ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين'.
'وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا، أليس الله بأعلم بالشاكرين.
'وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم، كتب ربكم علي نفسه الرحمة'.
وهكذا لم يكن الرسول صلي الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآيات، حتي يبالغ في اكرامهم، فيفرش لهم رداءه، ويربت علي أكتافهم ويقول لهم:
أهلا بمن أوصاني بهم ربي.
أجل مات واحد من الأبناء البررة لأيام الوحي، وجيل التضحية.
***
'ولعل خير ما نودعه به كلمات الامام علي كرم الله وجهه حين كان عائدا من معركة صفين، فوقعت عيناه علي قبر غض رطب فسأل:
قبر من هذا؟
فأجابوه:
إنه قبر خباب
فتملأه خاشعا آسيا وقال:
رحم الله خبابا
لقد أسلم راغبا
وهاجر طائعا
وعاش مجاهدا'
هذه صورة لمجاهد عظيم، ومكافح عظيم، لم يترك الدنيا إلا بعد أن ترك سيرة عطرة تتداولها الأجيال في كل العصور.